خرج أبو مفيد مسرعا من الباب الحديدي المطل على فسحة المنزل, حتى قبل أن ينهي ارتداء كامل عدته المعتادة لمواجهة البرد, فلم تزل لفحته الرمادية الصوفية بيده, و التي اعتادت الالتصاق برقبته في محاولة للمحافظة على كامل حرارة جسده الهرم, الذي أدمن الحب لبرد الشتاء و قسوته.
هذا الحب الذي عجز عن إيجاد سبب منطقي واحد لتفسيره ربما لأنه يعيد إليه ذكرى أول شتاء واجهه مفيد بعد ولادته, فلقد كان قاسيا و كان هو معتاد على الانطلاق في برد الصباح الباكر إلى عمله مبتسما بعد أن اطمئن على دفئ مفيد في فراشه, أو ربما لأنه يذكره بمحاولات مفيد الواهية في عدم الذهاب إلى المدرسة متذرعا بالبرد القارص ...
هذه الفسحة الواسعة اعتادت احتضانه في كل يوم منذ مدة بعيدة, فلقد كانت مكانه المفضل للتجول كنوع من أنواع الرياضات الصباحية المحببة إليه, و لكن هذه الفسحة و مع الأيام أصبحت تضيق عليه أكثر فأكثر, فلقد أصبحت حدودها و معالمها واضحة تماما في عقله.
"أسعد الله صباحك عم أبو مفيد" هكذا اعتدت أن ابتدأ نهاري بإلقاء تحيتي الصباحية عليه, و لكنه كالمعتاد اكتفى بإلقاء نظرة عليّ فهمت مع الأيام بأنه يقصد بها رد التحية بمثلها.
لا أدري سر هذا الصمت المخيم على حياته الحالية, فلقد كان ساكتا في مسيره, ساكتا بابتسامته ساكتا بقشعريرة البرد التي تصيبه من وقت لآخر, و حتى في كلامه فلقد كان ساكتا...
رغم قلة ما خطت السنون في وجهه من معالم, إلّى أن شعور داخلي غامضا كان دوما يخبرني بأن وراء هذا الوجه المشرق قصص نضال و كفاح خاضها هذا الهرم في أيام شبابه, فلقد كنت أحس بأنه بطل حرب ما غير حروبنا, أو ربما أستاذ في مدرسة الحياة الغامضة و التي كنت أتمنى أن أكون أحد تلامذتها النجباء.
فلكم تمنيت أن أتمكن من النزول إليه بعد أن أشاهده من شرفتي جالسا على كرسيه الخشبي الهرم الذي اعتاد على حرارة جسده الباردة و أحاول أن أنال من خبرة هذا الرجل ما قد أعجز عن الحصول عليه في حياتي كللها.
و في صباح أحد أيام الشتاء الباردة, أطليت من شرفتي لأستقبل نور الصباح بحثا عن تلك القشعريرة الصباحية التي أستلذها, لمحت أبا مفيد على كرسيه كالمعتاد, و لكن شيئا غامضا كان قد جعل وجهه أكثر إشراقا لهذا اليوم, ربما تلك الابتسامة الدافئة التي لم ألحظها من قبل و التي كانت قادرة على بعث الدفء في ذلك الصباح البارد, أو ربما الثياب التي كان يرتديها و التي لم أعهدها عليه, و كأنه قد قرر الذهاب إلى عرس ما و خاصة بعد أن عانق شيئا ما لم أتمكن من معرفة ما هو في البداية, و لكنه قد بدا على شكل هدية مستطيلة ملفوفة بورق أبيض عليه بعض زهور ملونة, هذا الورق الذي كان يستخدمه صاحب مكتبة مجاورة للمنزل للف الهدايا.
لم أتمكن من معرفة ما هي هذه الهدية التي يحملها هذا العجوز و يضمها إلى صدره هكذا و لكنني قدرت بأنها قد تكون كتاب ما.
تركت أبا مفيد على كرسيه, و انصرفت إلى أموري اليومية فلقد كان بانتظاري يوم حافل.
بعد حلول مساء هذا اليوم و أنا في طريق عودتي إلى المنزل, مررت بالقرب من أحد المطاعم الدمشقية, و التي اعتاد أهالي المنطقة على التوجه إليها لتناول العشاء, أو للاحتفال بمناسباتهم السعيدة, فلقد كان هذا المطعم مكانا قادرا على بعث الراحة و السكينة في قلوب جالسيه بلونه الأصفر الخافت, و مائداته البيضاء الكبيرة و كراسيه الكبيرة الشامخة.
و أنا أهم بمتابعة خطواتي إلى المنزل لمحت شخصا أعرفه في الداخل, فلقد كان مفيد قد اجتمع مع العائلة الكبيرة حول مائدة في وسطها قالب من الحلوى للاحتفال بعيد ميلاده الخمسين, و قد كانت أصوات ضحكته تملأ المكان هو و امرأته و أولاده جميعا و بعد أن تفحصتهم جيدا لم ألحظ غياب أحد أبدا, و تابعت طريقي.
أما أبو مفيد فقد بقي جالسا منسيا على كرسيه الخشبي, ضاما هديته إلى صدره رافضا مفارقتها منتظرا رغم اشتداد البرد الذي بدأ ينخر عظامه الهرمة, قدوم مفيد إليه ليصحبه للاحتفال مع العائلة و الأولاد بالذكرى الخمسين لأجمل لحظة في حياته, و التي لطالما حلم بأن يطيل الله عمره ليشهدها, و بقي أبو مفيد منتظرا و نام في أثناء انتظاره شاكرا الله لأنه حقق له حلمه و لم يفق في اليوم التالي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق